جوزف باسيل – النهار
منذ القديم حرّمت الخمرة أو مجِّدت، فهي احدى أهم أصول الاحتفالات، وحتى اليوم على تنوع مذاقها ما زالت زينة المائدة. يحرّمونها او يحتفلون بها، كل بحسب معتقده او اقتناعه. ما زالت الخمرة خمرة وما زال الناس ناساً، والشرائع نفسها يتوارثونها من دين الى دين مع بعض الاختلافات التي تدّعي التمايز. الخلاف عليها بما هي عليه ام على نتائجها؟ فليس ذنبها اذا تطرّف البعض في شربها، وفي تصرفاتهم، فالبعض يتطرف في ادعاء حب الله، حتى القتل! فهل الله هو المذنب أم هم؟
شيل العرق الى جانب تخمير النبيذ من الحرف التقليدية القروية الجبلية ليس في لبنان فحسب، بل في المشرق كله، أجودهما من العنب، لكن استخدمت في صنعهما انواع مختلفة من الفواكه والخضر والحنطة، كالتفاح والاجاص والتمر والبطاطا والذرة وحتى العسل، وبقدر ما يختزن من حلاوة يكون افضل. مارس المسيحيون هاتين الصناعتين دون ان يقتصر الأمر عليهم، فالمسلمون أيضاً خمّروا النبيذ وتاجروا به وشربوه قبل العرق والمشروبات الروحية الوافدة كالويسكي والفودكا وغيرهما من انواع يختص بها كل بلد او منطقة.
البيرة فالنبيذ ثم العرق
يقول جوزف الأسمر في كتابه "الخمرة عند العرب وقصة العرق اللبناني" ان الحضارات القديمة كلها من الصينية الى الفرعونية الى السومرية الى الاغريقية عرفت الخمرة وشربتها أولاً بشكلها البدائي وسمّاها البيرة، وهي التي تخمر بالماء والخبز قبل أن تتطور الى النبيذ الذي سميت الخمرة باسمه.
في التاريخ الديني ان نوح، بعد خروجه من فلك الطوفان، أول ما زرع الكرمة التي رفضت ان تصبح ملكة النبات لئلا تتخلى عن نبيذها. ثم شرب السومريون البيرة التي وضع لها حمورابي تنظيماً قانونياً سنة 2200 قبل المسيح فحدّد لكل فرد حصته اليومية من البيرة بحسب عمله ومستواه الاجتماعي... لكن السكر والغش ممنوعان. وكانت البيرة الى جانب الخبز الغذاء الرئيسي للمصريين القدامى الذين وضعوا لائحة توضح الفوائد الطبية للبيرة، ومنها: معجون البيرة لتضميد الجروح، بخور البيرة لتخفيف آلام الشرج... لكن الأهم انهم استفادوا من المضاد الحيوي Tetracyclin الذي وجد في عظامهم وكان يتكوّن في قعر الجرار. دون أن يعرفوه طبعاً.
وصارت الخمرة مشروب الفراعنة وأهل البلاط والبيرة مشروب العامة. ووجدت رسوم تظهر 12 مرحلة لصناعة الخمرة.
الخل والنبيذ كلاهما تخمير
التخمير هو تحويل السكر الموجود في العنب الى كحول، ويحصل عندما تتعرض انزيمات السكر للخميرة الطبيعية الموجودة في قشرة حبوب العنب وبذره وجذع العنقود. ودرجة الكحول تتغير حسب نسبة السكر. والتخمير لعدة أيام يعطي خمراً خفيفاً، ولعدة أسابيع يعطي خمراً قوياً. والسائل المتكون اذا عولج بطريقة معينة يصبح نبيذاً واذا ترك يتحول خلاً.
لم يعرف "شيل العرق" قبل سنة 800 ميلادية بعدما اخترع جابر بن حيان الأمبيق "الكركة" لتقطير الاعشاب لاغراض طبية وكيميائية. فاستفيد من طريقته لتقطير الكحول من العنب في بلاد المشرق، وبعد تجارب اضيف اليه اليانسون – ذو الخصائص الطبية – لتخفيف حدته واعطائه مذاقاً حلواً - يعطي نكهة ولا يعدّل في خصائص الكحول، فصار "العرق المشروب الوطني في لبنان والمحيط المجاور حتى تركيا وصار لكل بلد مشروبه الكحولي المقطر.
الخمرة اللبنانية هي الأغلى على مرّ العصور
ويفصّل الأسمر خصائص زراعة الكرمة وأنواعها وافضلها للنبيذ والعرق، وللبنان شهرة عالمية فيهما نظراً لنوعية تربته ومناخه، وليس في العصر الحديث فقط، بل منذ العصور الغابرة. فقد ورد ذكر خمرة لبنان في حفريات اوغاريت التي عرفت سنة 7500 ق. م. ووردت خمر لبنان على لسان النبي هوشع، وكانت هي الأغلى في القسطنطينية واوروبا في مراحل تاريخية مختلفة بعد المسيح. ويشرح عملية التقطير حتى "العرق المثلث".
عدا ان العرق هو المشروب الوطني فإنه جزء اساسي من "مونة" اللبناني في القرى الى جانب القورما والمربيات والمخللات والمجفّفات واللوزيات. ويستعمل "لتعبئة الراس" كما تقول العامة، وأيضاً للتنظيف وتطهير الجروح و"لزقة العرق" لتخفيف الآلام وأوجاع البطن. ولا تكتمل نشوة كأس العرق الا بمازاته المتعددة الصحون المتنوعة المذاق، متعة للحواس تحفز على الأكل الذي يتطلبه العرق للتخفيف من تأثيره على الكبد والرأس. اعتقد ان موائد الشعوب تعبّر عن حضاراتها. كذلك لا تكتمل حياة القرية دون "حليب السباع" الذي في جلساته يتبارى الزجالون وتنعقد حلقات الدبكة وتحتفل القرية كلها بكل جديد او مناسبة او عيد. وبه تكتمل الرجولة ويعلو "شيخ الشباب".
قانون ومعايير
في 7 حزيران 1937 صدر في الجريدة الرسمية القانون الذي ينظم صناعة العرق في لبنان، وجاء في المادة الأولى منه ان اسم العرق يطلق حصرياً على المشروب الكحولي الناتج من تخمير العنب وتقطيره، ورمى القانون الى دفع مصنعي العرق الى استعمال العنب فقط كأساس لسبيرتو العرق. وحديثاً حدّدت" ليبنور" أهم المواصفات والمقاييس لتعريف العرق وتحديد مواصفاته وعيار الكحول فيه. وسمحت بثلاثة أنواع من المواصفات.
اكثر ما ذكرت الخمرة في النصوص الدينية اليهودية والمسيحية والاسلامية والبوذية، بالطبع حيث كان الناس يعاقرونها. البعض حرّمها والبعض حلل القليل منها، والشرط في كل حال عدم السكر. كذلك ذكرت في الشعر منذ العصر الجاهلي مروراً بالعصور الأموية والعباسية والأندلسية وحتى العصر الحديث، ويتتبع الأسمر شعراً قيل فيها في مختلف العصور، فهي شغلت الناس جنباً الى جانب الدين، فكانت تتواءم معه أو تتنافر.